يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: “من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون” (الآيتان 178 179).
في هاتين الآيتين يبين الحق سبحانه وتعالى أن الهداية والضلال من الله، وأن هناك أقواما من الجن والإنس قد خلقوا لجهنم بسبب إيثارهم طريق الشر على طريق الخير.
ومعنى قوله سبحانه: “من يهد الله فهو المهتدي” أن من يوفقه الله إلى سلوك طريق الهدى باستعمال عقله وحواسه بمقتضى سنة الفطرة فهو المهتدي حقا، الواصل إلى رضوان الله صدقا، “ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون” أي: ومن يخذله سبحانه بالحرمان من هذا التوفيق بسبب إيثاره السير في طريق الهوى والشيطان على طريق الهدى، فأولئك هم الخاسرون لدنياهم وآخرتهم.
يقول السيد رشيد رضا في تفسير المنار: أفرد الحق سبحانه وتعالى المهتدي للإشارة إلى أن الحق واحد لا يتعدد ولا يتنوع، وجمع الضلالة في قوله “ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون” للإشارة إلى تعدد أنواع الضلال، ويوضح ذلك قوله عز وجل في سورة الأنعام “وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون”.
قلوب لا تفقه
ومعنى قوله عز وجل “ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس”: لقد خلقنا لدخول جهنم والتعذيب بها كثيرا من الجن والإنس، وهم الكفار المعرضون عن الآيات وتدبرها، الذين علم الله منهم أزلا اختيارهم الكفر فشاءه منهم وخلقه فيهم وجعل مصيرهم النار لذلك.
ثم بين سبحانه صفاتهم التي أدت بهم إلى هذا المصير السيئ فقال: “لهم قلوب لا يفقهون بها” أي لا يفقهون بها الآيات الهادية إلى الكمالات، مع أن دلائل الإيمان مبثوثة في ثنايا الكون، تدركها العيون المتفتحة والبصائر المستنيرة.
وقوله سبحانه “ولهم أعين لا يبصرون بها” أي لهم أعين لا يبصرون بها ما في هذا الكون من براهين تشهد بوحدانية الله، مع أنها معروضة للأبصار، مكشوفة للأنظار، فهم كما قال عز وجل: “وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون”، فهم لهم أعين ترى وتبصر ولكن دون تأمل أو اعتبار فكأن وجودها وعدمها سواء.
وقوله سبحانه: “ولهم آذان لا يسمعون بها” أي لا يسمعون بها الآيات والمواعظ سماع تدبر واتعاظ، أي أنهم لا ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله سببا للهداية.
قال صاحب تفسير الكشاف: “هؤلاء هم المطبوع على قلوبهم الذين علم الله انه لا لطف لهم، وجعلهم في أنهم لا يلقون أذهانهم إلى معرفة الحق، ولا ينظرون بأعينهم إلى ما خلق الله نظر اعتبار، ولا يسمعون ما يتلى عليهم من آيات سماع تدبر، كأنهم عدموا فَهْم القلوب وإبصار العيون واستماع الآذان، وجعلهم لإغراقهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه، وأنه لا يتأتى منهم إلا أفعال أهل النار مخلوقين للنار، دلالة على توغلهم في الموبقات، وتوغلهم فيما يؤهلهم لدخول النار”.
الأنعام أفضل منهم
وقوله عز وجل “أولئك كالأنعام” أي أن أولئك الموصوفين بتلك الصفات المذكورة كالأنعام السارحة التي لا تنتفع بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله سببا للهداية.
وقوله: “بل هم أضل” تنقيص لهم عن رتب الأنعام، أي بل هم أسوأ حالا من الأنعام، إذ إن الأنعام ليس لها سوى الاستعدادات الفطرية التي تهديها، أما الإنسان فقد زود إلى جانب الفطرة بالقلب الواعي، والعقل المدرك، والعين المبصرة، وزُود بالقدرة على اتباع الهدى أو اتباع الضلال، فإذا لم يفتح بصره وقلبه وسمعه على الحق فإنه يكون أضل من الأنعام الموكلة إلى استعداداتها الفطرية.
وقوله “أولئك هم الغافلون” أي أولئك المنعوتون بما ذكرهم، الكاملون في الغفلة عما فيه صلاحهم وخيرهم وسعادتهم بسبب استحواذ الهوى والشيطان عليهم ولا يظلم ربك أحدا.
مواقع النشر (المفضلة)