احترم الإسلام عقائد الآخرين، على الرغم من الاختلاف الجذري بينها وبين الإسلام، بل إنه سماها أدياناً، مما يوحي بالاشتراك بينها وبين الإسلام في الخصائص المميزة لها عن التيارات الفلسفية، فقال تعالى: “قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما أعبد. ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد. لكم دينكم ولي دين”، وهو ما يسمح لمعتنقيها بالجلوس إلى مائدة الحوار جنباً إلى جنب مع المسلمين، يحاورونهم حواراً حضاريًّا، بعيداً عن السفه والتطاول، ومنزهاً عن الإسفاف في لغة الحوار، متجنبين احتقار الآخر أو الإساءة إلى مقدساته، امتثالا لأمر الله في قوله تعالى: “ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم.....”، فالنهي عن سباب مقدسات الآخر هو دعوة إلى حوار حضاري بالكلمة الطيبة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وتبادل المعلومات في جو يسوده الاحترام من الطرفين، ومراعاة شعور الآخر، بحيث لا يتطاول على مقدساته، ولا يستهين بمبادئه، ولا يستهزئ برموزه، ولا يسخر من تعاليمه.
فالإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الجرائد الغربية أسلوب غير حضاري، بل هو رجوع بلغة الخطاب إلى ما كان سائداً في عصور الظلام، وممارسة لأخلاقيات تتنافى مع أبسط مبادئ الحضارة الإنسانية. ومن المبررات اللامعقولة ادعاؤهم بأن هذا يدخل في باب حرية التعبير، فقد ادعت الصحيفة الدنماركية التي نشرت صوراً مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم أن ما قامت به حق مشروع، يندرج تحت باب حرية التعبير السائدة في العالم الغربي؛ إذ ان قوانين هذا العالم تحمي هذه الحرية، وعليه فليس من حق المسلمين الاعتراض على ذلك، لأنه من المسلمات في المجتمع الغربي.. بل وصل الأمر إلى حد رفض رئيس الوزراء الدنماركي مناشدة المسلمين له تقديم اعتذار عن هذه الإساءة زاعماً أن حرية التعبير حق كفله الدستور، وأنه لا ولاية للحكومة على الصحافة، بل الأكثر من هذا إمعاناً واسترسالا في مسلسل إهانة المسلمين إعلان البرلمان الأوروبي الواضح والشديد اللهجة عن تضامنه مع الدنمارك وغيرها من الدول التي طالتها ردود المسلمين الغاضبة، وشدد مكرراً على أن الدول التي شهدت أعمال عنف وتظاهرات ضد نشر الرسوم، هي أمكنة تشهد في شكل منتظم انتهاكا لحرية التعبير، وهو قول ينطوي على عدة مغالطات، منها: أنه لا توجد حرية مطلقة وهو ما تعارف عليه المجتمع الدولي بكل أطيافه إذ حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية غيرك؛ فلا يجوز نشر الخصوصيات باعتبار أن ذلك حرية، ولا ينبغي الإساءة إلى المقدسات الدينية بحجة الحرية، لأن المقدسات الدينية لا يجوز الاقتراب منها، مهما كانت الدوافع والملابسات، وهناك أسرار تحرم قوانين الدول نشرها، حفاظاً على سلامة المجتمع، وصوناً للأمن العام. كما أن ادعاء حكومة الدنمارك بأن ما نشرته الصحيفة هو من باب حرية التعبير، وأنه لا ولاية للحكومة عليها، وأنه لا يمكن بأي حال فرض وصاية على الإعلام، تدحضه محاكمة المؤرخ “ديفد إرفنج”، فقد اقتيد إلى ساحة المحكمة بسبب ما قاله في محاضرة ألقاها في عام 1989م: “إن هتلر قدم المساعدة ليهود أوروبا، وإن كل ما يتردد حول المحارق وأفران الغاز ليس سوى خرافة”، وحكم عليه بثلاث سنوات بتهمة التعبير عن رأيه في أمر غير مقدس، وهو محرقة اليهود في أفران الغاز في ألمانيا الهتلرية. أين اختفت حماية حرية التعبير في هذه المحاكمة؟، ومن قبل حوكم “جارودي” لأنه شكك في عدد ضحايا الهولوكست. أين كان الدفاع عن حرية التعبير في مسألة تاريخية، من طبيعتها الاختلاف فيها؟؛ فهي ليست نصوصاً مقدسة، وليس لها من الأدلة والبراهين ما يرفع درجة اليقين فيها إلى مرتبة المقدسات الدينية!
“لقد كان هذا المسلك الدنماركي خصوصاً والمسلك الأوروبي الصحافي عموماً درساً من دروس الحماقة السياسية! وإذا كنا من قبل من باب النقد الذاتي نقدنا الحماقة السياسية العربية باعتبارها تعبر عن حماقة المتخلفين، إلا أننا لم ننس أن ننقد أيضاً حماقة المتقدمين التي ضربنا لها مثلا، الحماقة السياسية الأمريكية في غزوها العسكري للعراق وفي استخدام الإرهاب للقضاء على الإرهاب.
وإذا كانت الثقافة الأوروبية قد قامت منذ قرون بثورة ثقافية ضد تعسف الكنيسة، وأعلنت الفصل بين الدين والدولة، إلا أننا في مجال الثقافة العربية الإسلامية لا نعتبر أن السخرية من الأديان أيًّا كانت أو ازدراءها يعد من حرية التعبير! بل إن تشريعاتنا الجنائية تعتبر هذا الازدراء جريمة يعاقب عليها القانون. ونحن نعتقد في حكمة هذا الاتجاه، لأن المساس بالعقائد الدينية التي يؤمن بها ملايين البشر مسألة بالغة الخطورة على الاستقرار الاجتماعي، ومما يساعد على بلورة هذا الاتجاه لدينا، أن الإسلام يعترف بالأديان السماوية السابقة عليه، ولذلك يمكن القول إن التطرف الفكري والحماقة السياسية قد اشتركا في إشعال هذا الصراع الثقافي الحاد بين أوروبا والعالم الإسلامي مما ينذر بعواقب كارثية اقتصادية وسياسية وثقافية على كل الأطراف”.
مواقع النشر (المفضلة)