إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، أمـا بعـد،،،
فإن المسلم يقف بين يدي ربّه في كل يوم وليلة يسأل ربه مسألةً عظيمة، هو أحوجُ إليها من حاجته إلى الطعام والشراب، وهو مُحتاجٌ لها مع كلّ نفس، هذه المسألة هي سؤالُ هدايةِ الصراط المستقيم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[6]صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ[7]}[سورة الفاتحة] . والذين أنعم الله عليهم هم أهلُ طاعةِ الله، ورسولِه صلى الله عليه وسلم .
فما هي الهداية؟
الهداية: دِلالة بلطف إلى ما يوصل إلى المطلوب، وعرّفها ابن القيم بقوله:' هي معرفة الحق والعملُ به' .
فَعُلِمَ من هذا أن الهداية تُستطاع بفعل الأسباب بعد توفيق الله، ولذا قال سبحانه: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ }[108] [سورة يونس] .
وقال سبحانه:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}[17][سورة محمد] .
ولا بُدّ من فعل الأسباب والمجاهدة في الله حتى تحصل الهداية التامة، لقوله تعالى:{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[69][سورة العنكبوت] .
قال ابن القيم[الفوائد 87]:' علّق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً' أي في ذات الله، كما في الآية السابقة . ولا يُتصوّر أن ملكاً من الملائكة سوف يأخذ بيد العبد للهداية، فيأخذ بيده إلى المسجد، أو يأخذ بيده ويُساعده على إخراج منكرات بيته أو محلِّه، بل لا بُدّ أن تُبذل الأسباب أولاً، ثم يسأل العبدُ ربَّه التوفيق؛ ولذا كان الأنبياء والرسل يبذلون الأسباب المستطاعة ثم يسألون ربّهم التوفيق والإعانة .
وقد قسّم ابن رجب الناس إلى ثلاثة أقسام، فقال:
' الأقسام ثلاثة: راشد، وغاو، وضال ؛ فالراشد عرف الحق واتبعه، والغاوي عرفه ولم يتبعه، والضال لم يعرفه بالكلية؛ فكلُّ راشدٍ هو مهتد، وكل مهتدٍ هدايةً تامة فهو راشد؛ لأن الهداية إنما تتم بمعرفة الحق والعمل به أيضًا' اهـ .
وقد وصَف الله أتباع إبليس بأنهم من الغاوين، فقال:{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ }[42][سورة الحجر] .
ووصَف الله الذي أوتيَ الآيات فردّها بأنه من الغاوين، فقال:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ[175]وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[176]}[سورة الأعراف] .
فدلّ هذا على أن الهداية نعمة لا تحصل بتمامها إلا بفعل الأسباب ، وقد قال تعالى:{ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[86]}[سورة آل عمران] .
قال بعض العلماء في تفسير الآية:' أي أنه لا يهديهم ؛ لأن القــوم عرفـوا الحق وشهدوا به وتيقّنوه وكفـروا عمـداً، فمن أين تأتيهم الهداية ؟ فإن الذي تُرتجى هدايته من كان ضالا ولا يدرى أنه ضال، بل يظن أنه على هدى فإذا عرف الهدى اهتدى، وأما من عرف الحق وتيقنه وشهد به قلبه، ثم اختار الكفر والضلال عليه، فكيف يهدي اللهُ مثل هذا؟!' .
مواقع النشر (المفضلة)